الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
قال القاضي أبو محمد: ومعنى ذلك أصابهم عشا من البكاء أو شبه العشا إذ كذلك هي هيئة عين الباكي لأنه يتعاشى، ومثل شريح في امرأة بكت وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية، وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا، قال فأين يوسف؟ قالوا: {ذهبنا نستبق}؛ فبكى وصاح وقال: أين قميصه؟- وسيأتي قصص ذلك.و{نستبق} معناه: على الأقدام أي نجري غلاباً، وقيل: بالرمي أي ننتضل. وهو نوع من المسابقة، قاله الزجاج.وقولهم: {وما أنت بمؤمن} أي بمصدق؛ ومعنى الكلام: أي لو كنا موصوفين بالصدق؛ وقيل المعنى: ولو كنت تعتقد ذلك فينا في جميع أقوالنا قديماً لما صدقتنا في هذه النازلة خاصة لما لحقك فيها من الحزن ونالك من المشقة ولما تقدم من تهمتك لنا.قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ذكره الزجاج وغيره، ويحتمل أن يكون قولهم: {ولو كنا صادقين}، بمعنى: وإن كنا صادقين- وقاله المبرد- كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة فهو تمادٍ منهم في الكذب ويكون بمنزلة قوله: {أو لو كنا كارهين} [الأعراف: 88] بمعنى أو إن كنا كارهين.قال القاضي أبو محمد: وفي هذا المثال عندي نظر، وتخبط الرماني في هذا الموضع، وقال: ألزموا أباهم عناداً ونحو هذا مما لا يلزم لأنهم لم يقولوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين في معتقدك، بل قالوا: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين فيما نعتقد نحن، وأما أنت فقد غلب عليك سوء الظن بنا. ولا ينكر أن يعتقد الأنبياء عليهم السلام صدق الكاذب وكذب الصادق ما لم يوح إليهم، فإنما هو بشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه..» الحديث. فهذا يقتضي أنه جوز على نفسه أن يصدق الكاذب. وكذلك قد صدق عليه السلام عبد الله بن أبيّ حين حلف على مقالة زيد بن أرقم وكذب زيداً، حتى نزل الوحي، فظهر الحق، فكلام اخوة يوسف إنما هو مغالطة ومحاجة لا إلزام عناد.وقوله تعالى: {وجاءو على قميصه بدم كذب} الآية، روي أنهم أخذوا سخلة أو جدياً فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف، وقالوا ليعقوب: هذا قميصه، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا أثر ناب.فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليماً، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟- قص هذا القصص ابن عباس وغيره، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص- واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها- في قول مالك- إلى غير ذلك.قال الشافعي: كان في القميص ثلاث آيات: دلالته على كذبهم وشهادته في قده، ورد بصر يعقوب به. وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئباً فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب، هذا أكل يوسف، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم.ووصف الدم ب {كذب} إما على معنى بدم ذي كذب، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر:[الكامل] فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب.قال القاضي أبو محمد: هذا كلام الطبري، ولا شاهد له فيه عندي، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل، ولا يحتاج إلى بدل، وإنما الدم الكذب عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة.وقرأ الحسن: {بدم كذب} بدال غير معجمة، ومعناه الطري ونحوه، وليست هذه القراءة قوية.ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم: {بل سولت لكم أنفسكم أمراً} أي رضيت وجعلت سولاً ومراداً. {أمراً} أي صنعاً قبيحاً بيوسف. وقوله: {فصبر جميل} رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر: إما على تقدير: فشأني صبر جميل، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل. وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب: {فصبراً جميلاً} على إضمار فعل، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك- وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر [الرجز] وينشد أيضاً بالرفع ويروى {صبر جميل}، على نداء الجمل المذكور في قوله: [الرجز] وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه السلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه.وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بث لم يصبر صبراً جميلاً».وقوله: {والله المستعان على ما تصفون} تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه، والتقدير على احتمال ما تصفون.
وأنشد أبو الفتح وغيره في ذلك: وقرأ حمزة والكسائي {يا بشرِي} ويميلان ولا يضيفان. وقرأ عاصم كذلك إلا أنه يفتح الراء ولا يميل، واختلف في تأويل هذه القراءة فقال السدي: كان في أصحاب هذا الوارد رجل اسمه بشرى، فناداه وأعلمه بالغلام، وقيل: هو على نداء البشرى- كما قدمنا- والضمير في قوله: {وأسروه} ظاهر الآيات أنه ل وارد الماء،- قاله مجاهد، وقال: إنهم خشوا من تجار الرفقة إن قالوا: وجدناه أن يشاركوهم في الغلام الموجود.قال القاضي أبو محمد: هذا إن كانوا فسقة أو يمنعوهم من تملكه إن كانوا خياراً، فأسروا بينهم أن يقولوا: أبضعه معنا بعض أهل المصر.و{بضاعة} حال، والبضاعة: القطعة من المال يتجر فيها بغير نصيب من الربح، مأخوذة من قولهم: بضعت أي قطعت. وقيل: إنهم أسروا في أنفسهم يتخذونه بضاعة لأنفسهم أي متجراً، ولم يخافوا من أهل الرفقة شيئاً، ثم يكون الضمير في قوله: {وشروه} لهم أيضاً، أي باعوه بثمن قليل، إذ لم يعرفوا حقه ولا قدره، بل كانوا زاهدين فيه، وروي- على هذا- أنهم باعوه من تاجر. وقال مجاهد: الضمير في {أسروه} لأصحاب الدلو، وفي {شروه} لإخوة يوسف الأحد عشر، وقال ابن عباس: بل الضمير في {أسروه} و{شروه} لإخوة يوسف.قال القاضي أبو محمد: وذلك أنه روي أن إخوته لما رجعوا إلى أبيهم وأعلموه رجع بعضهم إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف، ويقفوا على الحقيقة من فقده فلما علموا أن الوراد قد أخذوه جاؤوهم فقالوا: هذا عبد أبق لأمنا ووهبته لنا ونحن نبيعه منكم، فقارهم يوسف على هذه المقالة خوفاً منهم، ولينفذ الله أمره؛ فحينئذ أسره إخوته إذ جحدوا إخوته فأسروها، واتخذوه {بضاعة} أي متجراً لهم ومكسباً {وشروه} أيضاً {بثمن بخس}، أي باعوه.وقوله: {والله عليم بما يعملون} إن كانت الضمائر لإخوة يوسف ففي ذلك توعد، وإن كانت الضمائر للواردين ففي ذلك تنبيه على إرادة الله تعالى ليوسف، وسوق الأقدار بناء حاله، فهو- حينئذ- بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يدبر ابن آدم والقضاء يضحك».وفي الآية- أيضاً- تسلية للنبي عليه السلام عما يجري عليه من جهة قريش، أي العاقبة التي للمتقين هي المراعاة والمنتظرة.و{شروه}- هنا- بمعنى باعوه، وقد يقال: شرى، بمعنى اشترى، ومن الأول قول يزيد بن مفرغ الحميري: [مجزوء الكامل] برد: اسم غلام له ندم على بيعه، والضمير يحتمل الوجهين المتقدمين؛ و{البخس} مصدر وصف به الثمن وهو بمعنى النقص- وهذا أشهر معانيه- فكأنه القليل الناقص0 وهو قول الشعبي- وقال قتادة: البخس هنا بمعنى الظلم، ورجحه الزجاج من حيث الحر لا يحل بيعه، وقال الضحاك: وهو بمعنى الحرام، وهذا أيضاً بمعنى لا يحل بيعه.وقوله: {دراهم معدودة} عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية، وهي أربعون درهماً، واختلف في مبلغ ثمن يوسف عليه السلام: فقيل باعوه بعشرة دراهم، وقال ابن مسعود: بعشرين، وقال مجاهد: باثنين وعشرين أخذ منها إخوته درهمين وقال عكرمة: بأربعين درهماً دفعت ناقصة خفافاً، فهذا كان بخسها.وقوله: {وكانوا فيه من الزاهدين} وصف يترتب في ورّاد الماء، أي كانوا لا يعرفون قدره، فهم لذلك قليل اغتباطهم به، لكنه أرتب في إخوة يوسف إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبه من القلب ورفضه من اليد، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف، وأما الورّاد فتمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز.وقوله: {فيه} ليست بصلة ل {الزاهدين}- قاله الزجاج وفيه نظر لأنه يقتضي وصفهم بالزهد على الإطلاق وليس قصد الآية هذا، بل قصدها الزهد الخاص في يوسف، والظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في سائر الصلات، وقد تقدم القول في عود ضمير الجماعة الذي في قوله: {وشروه}.
وأكثر الناس الذين نفي عنهم العلم هم الكفرة، وفيهم الذين زهدوا في يوسف وغيرهم ممن جهل أمره، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أصح الناس فراسة ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: {أكرمي مثواه}، وابنة شعيب حين قالت: {استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب.قال القاضي أبو محمد: وفراسة العزيز إنما كانت في نفس نجابة يوسف لا أنه تفرس الذي كان كما في المثالين الآخرين، فإن ما تفرس خرج بعينه.والأشد: استكمال القوة وتناهي البأس، أولهما البلوغ وقد عبر عنه مالك وربيعة ببنية الإنسان، وهما أشدان: وذكره منذر بن سعيد، والثاني: الذي يستعمله العرب وقيل: هو من ثماني عشرة سنة إلى ستين سنة.قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف. وقيل: الأشد: بلوغ الأربعين، وقيل: بل ستة وثلاثون. وقيل: ثلاثة وثلاثون.قال القاضي أبو محمد: وهذا هو أظهر الأقوال-فيما نحسبه- وهو الأسبوع الخامس، وقيل: عشرون سنة، وهذا ضعيف. وقال الطبري: الأشد لا واحد له من لفظه، وقال سيبويه: الأشد جمع شدة نحو نعمة وأنعم، وقال الكسائي: أشد جمع شد نحو قد وأقد، وشد النهار: معظمه وحيث تستكمل نهاريته.وقوله: {حكماً} يحتمل أن يريد الحكمة والنبوءة، وهذا على الأشد الأعلى، ويحتمل الحكمة والعلم دون النبوءة، وهذا أشبه إن كانت قصة المراودة بعد هذا. و{علماً} يريد تأويل الأحاديث وغير ذلك. ويحتمل أن يريد بقوله: {حكماً} أي سلطاناً في الدنيا وحكماً بين الناس بالحق. وتدخل النبوة وتأويل الأحاديث وغير ذلك في قوله: {وعلماً}.{وكذلك نجزي المحسنين} ألفاظ فيها وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يهولنك فعل الكفرة بك وعتوهم عليك فالله تعالى يصنع للمحسنين أجمل صنع.
|